مدينة البرتقال يافا حضارة ومجتمع من 1700م إلى 1840م للمؤلف القدير البروفيسور محمود يزبك



من الإصدارات الجديدة لمؤسسة الدراسات الفلسطينية
إعداد الباحث عباس نمر
عضو اتحاد المؤرخين العرب

ها هي مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت ورام الله تستمر وبصدقها الدائم في إصداراتها وانسجاماً مع رسالة المؤسسة في حماية التاريخ والتراث جاعلين من المكان منزلة عالية في الفكر الفلسطيني .

وها هو كتاب : ( مدينة البرتقال يافا حضارة ومجتمع 1700 إلى 1840 ) لمؤلفه العلامة البروفيسور محمود يزبك من سكان مدينة الناصرة وهو محاضر في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة حيفا ويدرّس التاريخ الفلسطيني في الجامعة ، ورئيس مجلس إدارة مركز عدالة للدفاع عن حقوق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948م .

وكم كانت سعادتي بالمركز الثقافي التركي ـ يونس امره برام الله وقد استضاف الدكتور محمود يزبك يوم الأحد 15/3/2019م حيث ألقى ندوة ثقافية تاريخية علمية احتفاء بالكتاب الجديد (مدينة البرتقال ـ يافا) وكان في استقبال الحضور الدكتور عبد القادر سطيح مدير المركز الثقافي ، والملحق الثقافي التركي الاستاذ ريها أرممجو ، وكان قد أدار الحوار الدكتور رائد بدر ، وبحضور العديد من المهتمين ومنهم مسؤولو مؤسسة الدراسات الفلسطينية في رام الله السادة خالد فراج وعلاء جرادات وفؤاد عكليك وكذلك الدكتور حمزة ذيب والمؤرخ الاستاذ عزيز العصا وآخرون ، وبعد انتهاء الندوة شكرنا الدكتور محمود يزبك الذي جعل من المكان ( يافا ) منزلة عالية في الفكر الفلسطيني ، لأن المكان الفلسطيني هو المنبت والمنشأ .

وعندما تصفحت هذا الإنجاز الذي يروي نهضة يافا في العصر الحديث حيث كانت الحياة قد بدأت بالعودة إليها بالتدريج مع القرار العثماني في آواخر القرن السابع عشر بإعادة إعمار مدن الموانئ ومن ضمنها يافا .

وها أنا أقدم للقارئ العزيز في صحيفة القدس عبر هذه الحلقة شيئاً من هذا الجهد الجبار (مدينة البرتقال يافا حضارة ومجتمع 1700م إلى 1840م ) وجاء هذا الكتاب القيم في (318) صفحة من القطع المتوسط واشتمل على العديد من الصور والوثائق القديمة وقسمت المحتويات إلى ستة فصول ، وتضمن الفصل الأول عودة يافا إلى الحياة من مرسى مهجور إلى ميناء يعج بالحياة .

أما الفصل الثاني فيشمل غزو نابليون والدمار الكبير الذي تعرضت له مدينة يافا ثم ظهور قيادة محلية بقيادة محمد باشا أبو المرق وبداية إحياء المدينة ومحو آثار الاحتلال والدمار ، وإعادة إعمار جامع البحر وتشجيع التجارة فيها .

وأما الفصل الثالث فقد أسهب في الحديث عن محمد آغا أبو نبوت متسلم يافا الجديد في سنة (1805م) الذي نجح في عملية البناء والرخاء والاستقرار لمدينة يافا .

أما الفصل الرابع فيحدثنا فيه عن نهاية حكم المماليك وزوال الانكشارية وصعود القوى المحلية .

والفصل الخامس تكلم فيه مؤرخنا عن مجتمع يافا في طور التشكيل وقد عرف الرحالة الأوربيون يافا ، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر بأن يافا (ميناء القدس).

 والفصل السادس والأخير يخبرنا عن وجود الجالية المصرية قبل الاحتلال من قبل الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا ، ويوضح لنا بدايات الحكم المصري والإدارة ومجلس الشورى والمحكمة والقناصل الأجانب وتعميرات الأديرة والاقتصاد والبيارات والسكنات ، واختتم الكتاب بالخاتمة والمراجع .

إن مواضيع هذا الكتاب النفيس كلها بفصوله الستة غنية بالتاريخ ، وهي زاد للمهتمين والباحثين ، وبعد الاجتهاد قررت أن أقدم للقارئ الكريم شيئاً مختصراً من الفصل الثالث .

البدايات

بعد فترة طويلة من التقلبات والتدمير والحصار والاحتلال التي شهدتها يافا ، والتي استمرت منذ سبعينيات القرن الثامن عشر ، فتح محمد آغا أبو نبوت متسلم يافا الجديد في سنة 1805م فصلاً جديداً من الرخاء والاستقرار في تاريخ المدينة وحين قررت الدولة العثمانية في السنة نفسها ضم سناجق وسط فلسطين وجنوبها ويافا رسمياً إلى ولاية صيدا وعاصمتها عكا ، توقف حكام عكا عن النظر إلى يافا كمصدر خطر ، أو كميناء منافس لها ، بل على العكس من ذلك شكلت يافا منذ ذلك التاريخ درعاً واقياً لعكا ضد الخطر الذي قد يأتي من مصر ، ولهذا لم يتردد ولاة عكا في السماح لمتسلم يافا بتقوية دفاعات المدينة وأسوارها ، ومع هذا التغير الاستراتيجي في علاقة ولاة عكا بمتسلمية يافا بدأ أبو نبوت حكمه مدينة يافا في سنة 1805م.

ولنجاح أبو نبوت في مهمته كافأه سليمان باشا بأن أبقاه في يافا متسلماً مؤقتاً ، وحينما ضمت الدولة العثمانية سناجق وسط فلسطين وجنوبها إلى ولاية صيدا من جديد حصل أبو نبوت على تعيين رسمي من الوالي بمنصب متسلم سناجق غزة والرملة ويافا ولُد .

وتميز أبو نبوت عن أقرانه في عدة أمور ، وتشابه معهم في أمور أخرى ، وأوضح كتاب التعيين أن المتسلم يكون الأول سياسياً واجتماعياً في حدود متسلميته ، كما أن محمد آغا أبو نبوت حظي بمجموعة من الألقاب الاجتماعية والإدارية التي أكدت علو منصبه بين أقرانه ، وبين سائر أصحاب المناصب في السناجق المسؤول عن إدارتها ومن هذه الألقاب : ( افتخار الأماجد والأعيان ) وهو أعلى لقب اجتماعي يلتصق بأصحاب أرفع المناصب في المجتمع .

من حياة أبو نبوت

لا نعرف الكثير عن حياة محمد آغا أبو نبوت قبل تعيينه متسلماً ليافا سوى أنه من أصول جورجيه ومن مماليك أحمد باشا الجزار ، وكان قد تبوأ قبل عتقه من المملوكية مكانة رفيعة بين أفراد بيت الجزار ، وفي تسعينيات القرن الثامن عشر خدم أبو نبوت سيده الجزار بوظيفتين : أمين الجمرك لمدينة عكا ومتسلماً لمدينة دمشق ، واكتسب من وظيفته الأولى دراية وخبرة عملية وتماساً مباشراً بتجارة البحر الأبيض المتوسط التي أخذت آنذاك بالازدهار ، واستزاد من وظيفته الثانية خبرة ومعرفة بأنظمة الحكم ووسائله في دمشق ، أكثر عواصم الولايات تعقيداً بتركيباتها الاجتماعية والسياسية وحين تولى أبو نبوت حكم متسلمية /سناجق وسط فلسطين وجنوبها (يافا وغزة والرملة واللد) كان على اطلاع ودراية بالنظم الإدارية والمالية في مؤسسات الولاية والسناجق ، وربما كانت هذه الخبرة سبباً في تركه بصمة واضحة في تاريخ يافا ما زالت معالمها ماثلة حتى أيامنا هذه .

مبانٍ ضخمة وحديثة

إضافة إلى التغييرات الجذرية في النسيج الاجتماعي في مدينة يافا أحدث أبو نبوت أيضاً تغييرات هائلة في مظهر المدينة ، ونعمت يافا وجنوب فلسطين بصورة عامة خلال فترة حكمه بفترة من الاستقرار والأمن ، الأمر الذي ساهم في تطوير المدينة ، ودفع بالحركة التجارية والاقتصادية بقوة إلى الأمام .

واستثمر أبو نبوت في يافا مبالغ مالية كبيرة وبادر منذ بداية حكمه إلى إنشاء مبانٍ كبيرة وعظيمة في المدينة ، لجعلها تظهر بمظهر مدني يليق بموقعها كعاصمة لسناجق وسط فلسطين وجنوبها وشبيهة بأهمية عكا عاصمة ولاية صيدا في شمال فلسطين ، والأموال الهائلة التي توفرت لديه في خزينة يافا شجعته على الاستثمار في هذا الاتجاه ، وتم تسجيل مساهماته واستثماراته في إعمار المدينة تفصيلاً بوقفيته ، التي جعل معظمها وقفاً خيرياً لمصلحة المدينة وسكان المنطقة ، وخلال فترة امتدت طوال ثماني سنوات (1809-1816) جدد عمارة أسوار المدينة والجامع الكبير (المحمودي) والمدرسة والمكتبة العامة (كتبخانة) وأربعة أسبلة وخانين وسوقين وخمسة وستين دكاناً وعدة مخازن وبيوت سكنية له ولمماليكه .

وخطا أبو نبوت خطوته الأولى بمخطط إعمار يافا حين بدأ بشراء البيوت ، أو تعميرها لإيواء مماليكه ، وبعد أن تملك مجموعة كبيرة من الأملاك غير المنقولة بدأ بمخطط تغيير مظهر المدينة ، وبدأ الخطوة الأولى لتنفيذ هذا المخطط سنة 1806م بنقل المقبرة الإسلامية من داخل أسوار المدينة إلى موقعها خارج الأسوار من الجهة الشمالية ، ومن أجل ذلك اشترى قطعة أرض خارج الأسوار لجهة الشمال وأوقفها لتصبح مقبرة إسلامية جديدة .

مسجد يافا الكبير مجمع ديني وثقافي ضخم

انتهى أبو نبوت في سنة 1809م من إنشاء مجمع ديني وثقافي ضخم ، شمل مسجد يافا الكبير والمدرسة والمكتبة العامة والسبيل ، وعُرف هذا المجمع فيما بعد باسم المسجد والسبيل المحمودي ، لذكرى ابنه محمود الذي توفي في السنة نفسها ، وتشير وقفيتان أوقفهما أبو نبوت في ذي الحجة 1223هـ/كانون الثاني 1809م إلى أنه أوقف قطعة أرض وبيتاً كبيراً في يافا على مصالح البئر والسبيل بباب الجامع الكبير وعلى مصالح الجامع .

إن تعمير أبو نبوت لمسجد يافا الكبير غير المبنى من كونه مسجداً بسيطاً وجعله مجمعاً ضخماً يضم قاعة واسعة للصلاة ومكسوة بقبة كبيرة ، وأنشأ أيونات معقودة على عمدان متقنة وفرش صحن الجامع المذكور بالبلاط المتقن ورتب للمسجد خطيباً وإماماً ومؤذنين وخدمة ، وإضافة إلى المسجد أنشأ أبو نبوت في سنة 1809م سبيلين داخل أسوار المدينة متصلين بالجامع ، وورد في الوقفية أنه أنشأ من ماله وطيب نواله بيراً كبيرة معيناً وركب عليها دولاباً لاستخراج الماء الملاصق لذلك الجامع الكبير المعمور بذكر الله (تعالى) الكائن بإسكلة يافا ، وأنشأ سبيلاً ملاصقاً للبير المذكورة وأنشأ أيضاً السبيل المحمودي .

وتعتبر مئذنة الجامع الكبير علامة فارقة بالنسبة إلى سائر مساجد فلسطين ، وتعلو هذه المئذنة شرفتان ، ولا نجد مثيلاً لها في سائر مساجد فلسطين وهي من هذه الناحية فريدة في تشكيلها ، وقامت إدارة الأوقاف بترميم المئذنة عام (1908م) ، ويبدو واضحاً من الأنماط الهندسية في الجامع الكبير في يافا ومسجد الجزار في عكا أن هذه المساجد تأثرت بمساجد استانبول ، ولا سيما بمظهر القبب العديدة التي تمتاز بها تلك المساجد .

وحين قام أبو نبوت بإعادة تعمير الجامع الكبير في يافا الذي هُدم في أثناء الغزو النابليوني ، حوله إلى شكل مصغر لمجمع ديني عثماني ، شبيه بالمجمعات الدينية الضخمة القائمة في إستانبول ، وهكذا رفع أبو نبوت من أهمية المسجد ومن أهمية منشئه ، ومن أهمية المدينة ، إذ غيرت أوقاف أبو نبوت مجتمعة مظهر المدينة لتستحق كونها فعلياً المدينة الأهم والأعظم بين مدن ألوية (سناجق) وسط فلسطين وجنوبها .

المدرسة والمكتبة

وخلال سعي أبو نبوت لتعزيز مكانة يافا وجعلها عاصمة لوسط فلسطين ولجنوبها ، وذات مكانة شبيهة بمكانة عكا ، أنشأ بداخل جامع يافا الكبير مدرسة شبيهة بالمدرسة الأحمدية الكائنة بفناء جامع الجزار ، وهذه لم تكن المدرسة الأولى التي عرفتها يافا فقد شمل جامع يافا الكبير مدرسة انشئت في فنائه منذ منتصف القرن الثامن عشر ، لكنها هدمت مع الجامع أثناء الاحتلال الفرنسي للمدينة ، وأقام أبو نبوت في المدرسة الجديدة مكتبة (كتابخانة) ، لم يكن في يافا مثلها قط وخدمت هذه المكتبة الطلاب والعلماء والجمهور بصورة عامة ، وأوقف على المكتبة والمدرسة أوقافاً كثيرة لتصرف ريعها على حفظهما ، ووقف على المدرسة وقفاً عظيماً يدر أرباحاً سنوية كبيرة لتصرف على أصحاب الوظائف والطلاب في المدرسة .

وشملت مكتبة يافا حين إنشائها مجموعة كتب مخطوطة ، وصل عددها إلى خمسمئة وثلاث وثمانين مخطوطة أدارها أمين الكتبخانة ، وكانت أغلبية هذه الكتب باللغة العربية ، وقليل منها بالعثمانية ، وتم تصنيف كتب المكتبة إلى عدة موضوعات عامة : كتب الفقه ، وكتب التاريخ ، وكتب التوحيد ، وكتب المنطق ، وكتب النحو ، وكتب المعاني ، وكتب التفسير ، وكتب الفتوى ، وكتب اللغة ، وكتب البلاغة ، وكتب النظم (الشعر) ، وكتب السادة الصوفية ، وكتب الطب ، وتشمل وقفية أبو نبوت تفصيلاً لكتب كل موضوع من الموضوعات المذكورة أعلاه ، والتدقيق في تنوع كتب هذه المكتبة يقودنا إلى الاستنتاج أن إنشاء مكتبة يافا كان يهدف إلى خدمة المدرسين والطلبة والجمهور بصورة عامة وليس فقط ما يتعلق بتدريس علوم الدين ، بل كذلك برفد الدارسين والمطلعين على معرفة ثقافية عامة في علوم شتى .

وتطلبت منشآت أبو نبوت وتعميراته المتعددة – كالطواحين السبع والجامع الكبير والأسبلة المتعددة والمدرسة والمكتبة – ميزانيات ضخمة لصيانتها وتفعيلها بنجاعة ، ومن أجل تحقيق هذه النجاعة وديمومة بقائها أوقف أبو نبوت مجموعة ضخمة من العقارات والأملاك غير المنقولة التي اشتراها من ماله الخاص ، أو أعاد إعمارها أو أنشأها لهذا الغرض بالذات ، وخصص ريع هذه الأوقاف الكثيرة والضخمة لصيانة تلك المنشآت وحمايتها وتفعيلها ، وشملت أوقاف أبو نبوت التي خصصت لهذه الغاية ما مجموعه سبعة وستون دكاناً وسوقين والطواحين السبع وخانين ومخزنين كبيرين وثمانية بيوت ومقهيين وثلاث قطع أراضٍ ومدبغة ومعصرة زيتون وبيارتين ، وكان لمشاريع أبو نبوت وأوقافه العديدة والمتنوعة لصيانة مؤسساته الخيرية وتفعيلها تأثير واضح في تشكل هيئة المدينة وملء فضاءاتها وامتد إعمار المدينة طوال فترة حكمه بالتدريج وبشكل متواصل وتظهر معطيات سجل المحكمة الشرعية بيافا وحيثيات وقفية أبو نبوت أنه بدأ بتجميع الأملاك والعقارات في حيازته منذ سنة (1806م) أي مع بداية حكمه في يافا ، واستمر هذا النهج حتى بعد انتهاء فترة حكمه في المدينة .

السبيل المحمودي ( الجواني )

عرف السبيل المحمودي أيضاً بالسبيل الجواني أي داخل أسوار المدينة لتمييزه من السبيل البراني ، أو سبيل الشفاء الذي أقامه أبو نبوت لاحقاً خارج أسوار المدينة على طريق القدس ، وأقيم السبيل المحمودي على حائط الجامع من الجهة الجنوبية ، وقد صمم على شكل تجويفة مقوسة ، وزود الناس بالماء بواسطة صنابير صبت الماء داخل أحواض رخامية بأسفل التجويفة المقوسة ، وعلى الرغم مما شهدته يافا من تدمير في إثر النكبة ، فإن السبيل ما زال قائماً حتى أيامنا ، ويشكل معلماً حضارياً بارزاً من معالم مدينة يافا ، ويعرف اليوم باسم (سبيل بونبوت) أو (سبيل الجامع الكبير) ، وحين زار الرحالة باكنغهام يافا سنة (1821م) وصف هذا السبيل بقوله : (وحين الدخول من بوابة المدينة تشاهد على يمينك نافورة ماء مزدانة بألواح من الرخام وبرسومات بأحرف عربية مذهبة) ، وعلى ما يبدو فإن المعماري (أي المخطط والمشرف على العمل) لم يكن محلياً كذلك ، وإنما جاء من العاصمة فإنجاز هذا الصرح المعماري الشبيه بعمارات أخرى في استانبول ، لا يشبه صرحاً آخر في فلسطين.

سبيل الشفاء (البراني)

ومن خلال اهتمام أبو نبوت بتسهيل حركة المسافرين وحركة القوافل من يافا وإليها أنشأ سنة (1815م) سبيلين آخرين على الطرق الرئيسية : يافا ـ القدس ، وطريق يافا ـ الرملة ، وأطلق على السبيل الأول اسم (سبيل الشفا) واشتهر كذلك باسم السبيل البراني لوقوعه خارج اسوار المدينة ، ووقف أبو نبوت على هذا السبيل مجموعة أوقاف منها البستان (البيارة) المجاور له ، وخمسة دكاكين متلاصقة بداخل يافا ضمن سوق العمود ودار بداخل يافا بمحلة القلعة .

وهذا السبيل عبارة عن بناية مستقلة أقيمت على بعد سبعة كيلومترات إلى الشرق من أسوار يافا ـ على طريق القدس ، وارتفاع حيطانه يبلغ أربعة أمتار ، طول البناء يصل إلى ثمانية عشر متراً ، وعرضه ستة أمتار ، وفي أعلى البناء توجد مجموعة من القباب بحجوم وارتفاعات متعددة : ثلاث قباب تعلو بناء السبيل واربع قباب تعلو الدعامات الأربع المنشأة في زوايا البناء الأربع ، ويشتمل بناء السبيل المبني بشكل مستطيل على غرفة كبيرة وإيوانين (غرفتين) تمتدان من الشمال إلى الجنوب ، وعلى نظام لتزويد السبيل بالماء حيث تم تغذيته بالماء العذب من بئر حفر بقربه ، وفي وسطه تقع (الخزانة) أو خزان المياه ، وفي حائط (الخزانة) الشمالي يوجد باب ، وتخرج المياه من حائط (الخزانة) الجنوبي ، وهذه الوحدة مغطاة بألواح رخامية يتداخل فيها اللون الزهري مع اللون الأبيض هذا الطراز الإنشائي للوحدة الوسطى يذكرنا بنمط السبيل المحمودي وألوانه ، وفي جانبي السبيل يوجد إيوانان (غرفتان) مع منصتين أكثر أرتفاعاً من الوحدة الوسطى كانتا تستعملان لراحة المسافرين .

سبيل السوق

وبعد أن انتهى أبو نبوت من إنشاء سوق الفرج سنة (1815م) والذي أنشأه على شكل مربع ـ محاط بالدكاكين من جهاته الأربع ، أنشأ في وسط هذا السوق سبيلاً عرف باسم (سبيل السوق) ، بوسط صحن الساحة التي تتوسط السوق وكان سبيلاً عظيماً متقناً بالحجارة والبلاط والرخام الأسود المنوع .

هدم هذا السبيل وأزيل سوق الفرج في فترة توسعة المدينة مع إزالة أسوارها ولم يبق منه سوى قاعدته الرخامية وفي سنة (1962م) خطط المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى لإعادة إعمار سبيل السوق ، وتم وضع مخططات لذلك لكن لم ينفذ هذا المخطط .

سبيل صرفند

ولم يبق أثر من السبيل الرابع الذي أنشأه أبو نبوت وأقيم هذا السبيل بالقرب من قرية صرفند الواقعة على الطريق الرئيسي الذي ربط يافا بالرملة (لنفع المارين وأبناء السبيل) وأوقف أبو نبوت بيارة قريبة من سبيل صرفند يُصرف ريعها لخدمة مصالحه وبعد الانتهاء من إقامته عقد اتفاقاً مع وجوه قرية صرفند وأهاليها ، وألقى بمسؤولية الحفاظ على السبيل واستمرار عمله على عاتقهم ، واهتم أبو نبوت بتسجيل هذا الاتفاق في سجل المحكمة الشرعية بالرملة ، ونسخة عنه سجلت في سجل محكمة القدس الشرعية بتاريخ 31/كانون الثاني/1818م .

أسواق ومراكز تجارية جديدة

تشير كثرة الحوانيت والمخازن التي أوقفها أبو نبوت في يافا إلى أهمية وربحية مصدر الدخل لإدارة مصالح الأوقاف الخيرية التي أنشأها الواقف نفسه ، وشكلت أجرة هذه الحوانيت التي جباها الوقف مصدراً مهماً لإدارة أوقاف أبو نبوت الخيرية وصيانتها ، وقام أبو نبوت بعملية ترميم واسعة لمبانٍ تضررت ودمرت في أثناء الحروب العديدة التي تعرضت لها يافا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ، وفي عدة حالات قام بإنشاء مراكز تجارية وأسواق جديدة في المدينة ، وكان هذا انعكاساً للاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي الذي شهدته يافا خلال فترة حكمه ، كونها مدينة ميناء ومركزاً جمركياً مهماً لوسط فلسطين وجنوبها من خلال الميناء وهو الجزء الأكبر من نشاط يافا الاقتصادي ، وهو مما زاد النشاط التجاري للأسواق المحلية التي عرضت في أسواقها مواد مستوردة وفخمة .

وقبل عهد أبو نبوت لم يكن في يافا إلا سوقان مركزيان : واحد عرف باسم السوق الفوقاني لوقوعه في أعلى الهضبة المقامة عليها المدينة والآخر أطلق عليه أسم التحتاني لوقوعه في أسفل الهضبة بالقرب من الميناء ، وشهدت المدينة في عهد أبو نبوت انتعاشاً للأسواق التجارية وزاد عددها وكثر تنوعها ، وتشكلت على نمط أسواق المدن الاسلامية العريقة التي امتازت بتقسيم الاسواق بحسب المهن والتخصصات التجارية المتشابهة ، وتشير مصادر دراستنا إلى وجود سبعة أسواق تكونت بحسب المهن التالية وهي : سوق الحدادين ، وسوق الصاغة ، وسوق العطارين ، وسوق اللبن ، وسوق القمح ، وسوق الخضار وسوق الستر الذي أعد للنساء اللواتي كن يأتين من القرى المجاورة لبيع منتوجاتهن الزراعية وعلى ما يبدو كانت النساء ينتشرن في أسواق المدينة المتعددة وأراد أبو نبوت جمهعن في مكان واحد ( سماه سوق الستر محلاً ومركزاً للنسوة اللاتي يبعن ما يباع ستراً لهن ) ، وظهرت هذه الأسواق بتخصصاتها التجارية والمهنية المنوعة كجزء من مبادرات أبو نبوت ومشاريعه العمرانية العديدة .

وإضافة إلى تجديد العديد من الحوانيت التي وقعت على الطريق السلطاني (الرئيسي ) الذي مر من خلال بوابة يافا الشرقية وحارة النصارى وصولاً إلى الأحياء المجاورة للقعلة ، بنى العديد من الحوانيت الجديدة وعرف هذا السوق باسم (سوق العمود) ووجدت على طول الطريق السلطاني من جهتيه مقاهٍ عديدة وحوانيت متنوعة موزعة على طول الطريق بحسب نوع التجارة أو المهنة .

أنشأ أبو نبوت في يافا سوقين جديدين وجعل جميع حوانيتهما وقفاً خيرياً لمصلحة المؤسسات الخيرية التي استحدثها في المدينة .

ترميم كنائس وأديرة

امتدت الطفرة العمرانية التي شهدتها يافا في عصر أبو نبوت كذلك إلى كنائس يافا وأديرتها ، وتفيدنا معلومات موثوق بها في سجل محكمة يافا الشرعية أن كنائس وأديرة الروم الارثوذكس واللاتين (الأفرنج) والأرمن في يافا والرملة أجري لها ترميم شامل وأحياناً أعيد بناؤها من جديد .

الأمن والاستقرار في عهد أبو نبوت

بعد أن عانت يافا كثيراً في العقود التي سبقت حكم أبو نبوت المدينة وسنجق وسط فلسطين وجنوبها، كما شرحنا أعلاه، نعمت المدينة بفترة استقرار وأمن وأمان وانتعاش اقتصادي وطفرة عمرانية. وانعكس هذا الانتعاش كذلك على مختلف أنحاء سناجق وسط فلسطين وجنوبها. وإضافة إلى تحصين يافا وتشييد أسوارها من البحر والبر وتقويتها وإقامة خندقٍ حول أسوارها من جهة البر، فقد دأب أبو نبوت كسابقه، أبو المرق على التدخل في النزاعات بين القرى وبين العشائر البدوية التي سكنت في جوار يافا ، أو في جنوب فلسطين بصورة عامة وعلى ما يبدو فإن القوة العسكرية التي أمتلكها أبو نبوت وأفراد بيته المملوكي الذين انتشروا في إدارة مقاطعات سناجق وسط فلسطين وجنوبها كان لهم تأثير رادع لفرض الأمن في مناطق حكمهم وانعكس هذا الأمن على صفحات سجلات المحكمة الشرعية في يافا .  

وانتهى عصر أبو نبوت في يافا لكن أسمه لم يأفل عنها حتى يومنا الحاضر فما زالت ذكراه مخلدة في أعماله وإنشاءاته في أنحاء المدينة ونختتم هذا الفصل بما جاء في خاتمته (اعطى أبو نبوت يافا قبلة الحياة ومن بعده سارت المدينة على طريق التطور والتوسع لتصبح اهم حواضر فلسطين ما قبل النكبة).

وأخيراً

إن ما قدمناه في هذه الحلقة المختصرة والمتواضعة من الفصل الثالث من الكتاب لا تفيه حقه ، والكتاب كله بفصوله الستة غني بالتاريخ فهو زاد للمهتمين عن تاريخ يافا من عام (1700م-1840م) وللحقيقة يتبين لنا مدى المعاناة التي يعاينها المجتهدون من خلال بحثهم في الوثائق والسجلات القديمة لكن هناك نفراً من الناس أمثال البريفيسور محمود يزبك يتركون أعمالهم بصمات على جبهة الزمان حيث تبقى مضيئة ناصعة حافلة بالدروس والعبر ، وإلى الإمام وإلى اللقاء في حلقة قادمة إن شاء الله .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

كتاب القدس سجل مصور